الجمعة، 28 أغسطس 2015

صاحب الظل الطويل



من أنت، يا صاحب الظل الطويل؟
حلمتُ بالسعادة، حلمتُ بالحياة
وسدة الدروب
واشتدت الخطوب
فجئت من سراب
يا صاحب الظل الطويل



لا يمكن أن تغفل ذاكرة الطفولة عن شخصية جودي أبوت في المسلسل الكرتوني الشهير "صاحب الظل الطويل"
ولم يكن في بالي وانا أطالع رواية جين وبستر (أبي طويل الساقين) أنني اقرا الرواية التي خلقت احدى الشخصيات الكرتونية المحببة لدي "جودي أبوت "
لا شك أن رواية "أبي طويل الساقين "حصدت نجاحاً كبيراً عندما تم نشرت لأول مرة في عام 1914 لتصنف بعد عدة سنوات على انها من روائع التراث الأدبي الأمريكي، وتحول إلي فيلم روائي موسيقي في عام 1955 .


جين وبستر (اسم مستعار لأليس جين تشانلر ويبستلر ، كاتبة و روائية أمريكية ، ألفت الكثير من الكتب أشهرها أبي طويل الساقين و عزيزي العدو ، ورغم انها ماتت في سن الأربعين لكنها تركت بصمة واضحة في الأدب الأمريكي فقد امتاز اسلوبها بالحيوية و الفكاهة و الحوار اللاذع الذي يجعل لكتبها قبولا واسع و متعة خاصة للقراء.
جين وبستر


تدور الرواية حول فتاة يتيمة تدعى جيروشا أبوت ويقال إن جين قصدت بجودي صديقتها الشاعرة أدليد كرابس.
تعيش جودي في ملجأ للأيتام ينتبه إليها أحد الاوصياء لما تمتلكه من موهبة الكتابة فيقدم لها منحة إلى كلية لينكولن الشهيرة بشرط أن تكتب رسالة شهرية له تخبره فيها عن دراستها واحوالها، لا تلتزم جودي بالرسالة الشهرية بل تخلق صلة تواصل مستمرة عبر رسائلها لمن أسمته "أبي طويل الساقين " ولعل اغلبنا يتذكر ذلك المشهد من الرسوم المتحركة صاحب الظل الطويل الذي دعا جودي لتسميته "بطويل الساقين "


وانت تبحر في عالم جودي ورسائلها تجد راحة وسلوى للنفس كبيرة، فجين تمتلك من سلاسة الأسلوب وروح الدعابة حيث ارفقت بعض رسائلها بأشكال توضيحية مما يجعل القراءة لها شيئاً يولد البهجة
..
تقول جودي أبوت في إحدى رسائلها
عزيزي الوصي الطيب _الذي يرسل اليتامى إلى الكلية.
ها انا ذا. لقد سافرت بالأمس لمدة أربع ساعات بالقطار، إنه شعور مثير ومبهج. اليس كذلك؟ إنني لم أركب قطارا من قبل.
الكلية متسعة وضخمة وتدعو للارتباك، أنا أضل طريقي، دائماً بمجرد ترك غرفتي. سوف أكتب لك وصفاً تفصيليا عندما أشعر أنني اقل ضياعا، وسأخبرك ايضا عن دروسي، فالدراسة لن تبدأ إلا يوم الاثنين، نحن الآن في ليلة السبت، لكني-على اية حال –رغبت في أن اكتب لك خطابا لمجرد التعارف.
من الغريب أن تكتب لشخص مجهول لا تعرفة، ومن المدهش بالنسبة لي شخصيا أن أكتب خطابات كليةً، فانا لم اكتب طوال عمري خطابين أو ثلاث، لذا أرجو أن تتجاهل هذا الخطاب إذا لم يكن نموذجيا للغاية.
قبلما أسافر صباح الأمس، استدعتني مسز ليبيت "مسؤولة دار الأيتام "لتكلمني جديا، أفهمتني كيف أتصرف طوال حياتي المقبلة، لاسيما كيف أتعامل مع ذلك السيد الذي منحني الكثير. حيث يجب أن
أخذ حذري وأكون مؤدبة بشكل غير اعتيادي.
لكن كيف أكون مؤدبة تجاه شخص يرغب فى ان يسمي نفسه جون سميث، لماذا لم تختر اسما فيه بعض اللمحات الشخصية؟ من الأفضل أن يكتب الإنسان خطابا لعزيزي: عمود النور أو عزيزي ظلفة الباب.
لقد فكرت كثيراً فيك هذا الصيف، فإنه لمجرد أن يهتم بي شخص ما بعد كل هذه السنين الطويلة، يعتبر كأنما ولدت من جديد وعثرت على عائلة أنتسب لها ..الآن ابدو وكأنني أنتمي لشخص ما ، هذا شعور مريح للغاية.
ولكني أري لزما علي أن أعترف بأنني كلما فكرت فيك فإن خيالي يجد القليل يستند إليه ..وهذه ثلاثة اشياء فقط اعرفها عنك .
1_أنك طويل القامة
2_أنك رجل غني
3_أنك تكره البنات
أعتقد أنه ربما يجب أن أدعوك: عزيزي كاره البنات، لكن هذا يعتبر إهانة لي. أو ادعوك: عزيزي الرجل الغني ،لكن هذا يعتبر إهانة لك ،فبالإضافة إلي اعتبار الشخص غنياً وهي صفة خارجية وسطحية ، فربما لا تستمر غنيا طوال حياتك. فكما تعلم، كثيراً من الرجل تحطموا في شارع المال "وول استريت"، لكنك –على أي حال –سوف تسمر دوماً طويل القامة ما دمت على قيد الحياة.
لذا قررت أن أدعوك: ولدي العزيز طويل الساقين. أرجو ألا تمانع في ذلك، إنه مجرد اسم تدليل خاص، طبعا لن نخبر مسز ليبيت بذلك.

سيدق جرس الساعة العاشرة مساء بعد دقيقتين من الآن .يومنا مقسم إلي فترات بواسطة الأجراس ، فنحن نأكل وننام ونذاكر بالأجراس ،ويتملكني شعور بأنني أشبه بحصان المطافئ . لقد دق الجرس الآن. سأطفى النور، تصبح على خير.
لاحظ كيف أنفذ التعليمات بكل دقة متناهية، وهذا راجع بالطبع لتمرسي ومراني على ذلك في دار جون جرير للأيتام.
المخلصة جداً
جيروشا آبوت



كُلنا نعرف كيف انتهت الرواية ..

سارة علي عبدالنبي 
28 اغسطس 2015

السبت، 15 أغسطس 2015

رضوى عاشور و (قصيدة الحياة والحب والموت )...



تُعد لوحة "الصرخة "المرسومة بالألوان من أكثر لوحات مونش تعبيرية يلاحظ فيها الأشكال و الألوان و المنحنيات الخاصة به و الغموض و الرمزية التي تعكس الواقع المرير للألم الإنساني و ما يعانيه الإنسان من عزلة في هذا العالم المترامي الأنحاء ، قيل أن مونش  رسمها في يوم تصادف فيه ثوران بركان كراكاتاوا في عام 1883 و الذي سبب غروباً شديداً في مختلف أنحاء أوروبا ، و قيل أيضا ً أنه رسمها في خضم حزنه لدخول أخته "لورا" المصحة النفسية ، كانت تلك اللوحة ضمن مجموعة لوحات رسمها "مونش" أثناء تواجده في برلين تحت اسم "إفريز الحياة" و التي وصفها بنفسه على أنها (قصيدة الحياة و الحب و الموت )
وربما بسبب وصف مونش  الأخير للوحته اختارتها رضوى  لتكون غلاف لسيرتها الذاتية الثانية وأخر كتاباتها ..
اربع وعشرون فصلاً غابت عن بعض الفصول سطور الحكاية  لإن المرض كان أسرع من رضوى ..
يقول مريد وتميم في الغلاف الخلفي للكتاب أنهم نشروا النص كوثيقة ،كما هو بدون تدخل من جانبهما ،مشيرين إلى القارئ :أن بعض الفصول سوف تحتوي على رؤوس أقلام أو عناوين تليها صفحات بيضاء ،ومن بين نصوص رضوى جميعها هذا النص الوحيد الذي رفضت أن تسمح لأسرتها او اصدقائها الاطلاع عليه اثناء كتابته .
خلال قراءتي لسيرتها الثانية والتي تتحدث فيه رضوى عن  محاربتها لمرض خبيث سكن رأسها  ، رجعت بي الذاكرة لأكتوبر من عام 2014 في العاصمة التونسية حين جلست وحيدة أمام الدكتور المعالج ليخبرني شكوكه حول وجود خلايا سرطانية في الغدة الدرقية والتي عانيت منها على عدة سنوات وكانت النتيجة ثلاث عمليات سابقة .
فتح الدكتور المغلف الذي احضرته من معمل التحليل لا زلت اذكر  اظافر يديه المقلمة ، ورغم حديثة الهادئ و تفاؤله  إلا انني في تلك اللحظات تمكنت بصعوبة من ابقاء شلال من الدموع داخل عيناي ،خضت بعدها اسبوعاً من الانتظار  وحيدة رغم  الرفقة ،واسبوعا اخر من التجهيزات لتحديد موعد العملية ودراسة الخيارات .
لا اريد أن اطيل عليكم في الحديث عن نفسي ، ومدى المخاوف التي خبرتها على مدى شهر كامل  ربما لأني رضوى اختصرت ذلك بجملة واحدة في كتابها عندما قالت أسوأ ما في المرض أنه يُرْبِكُ ثقتك بنفسك فيتسرب إليك الخوفُ من أنك لا تصلح, و لن تستطيع .”
في هذه السيرة وفي سابقتها "أثقل من رضوى " تتحدث رضوى وإن كان بطريقة لم نعهدها ، فيها بعض التشتت ،فالمرأة تعلم أن معركتها مع المرض خاسرة .. تدرك ان تأثيرات الجراحة التي أجرتها في امريكا والدنمارك  تفقدها القدرة على الكتابة كما كانت ..
تتحدث خلال "الصرخة" عن الثورة المصرية و تعلن آسفها لنزولها في مظاهرات 30 يونيو ، وتعلن عن رفضها ان تمنح تفويضاً يسمح بإقصاء الأخرين وقتلهم ،،وتشير مرات عدة خلال سردها لإحداث رابعة والنهضة ومحمد محمود واعتقال وقتل شباب الثورة
كنت اشعر بالحزن عندما اتفاجأ بورقات بيضاء بعد احد الفصول ، أشعر في تلك اللحظة كما شعرت سابقاً عند اعلامي بمرضي والذي شفيت منه بوجود فيض من الحكايات والكلمات لم اقولها   
في كل ورقة بيضاء في "الصرخة " اكرر  الموت اختطف رضوى وفي قلبها فيض من الكلمات ..




أحببت رضوى عاشور  منذ اليوم الأول  و الذي اهتدني فيه صديقتي الغالية قصة لها بعنوان (خديجة وسوسن ) أحببتها اكثر عندما اذهلتني في رواية الطنطورية  ثم  ابكتني في رواية (ثلاثية غرناطة ) و (فرج) و(أطياف ) و(سراج )
لا يمكن لأحد أن  يصف رضوى كما وصفها يوماً زوجها الشاعر مريد البرغوثي في صديقة لها  في عام 1987 م  يقول فيّها


على نَوْلِها في مساءِ البلادْ
تحاول رضوى نسيجاً
وفي بالها كلُّ لونٍ بهيجٍ
وفي بالها أُمّةٌ طال فيها الحِدادْ

على نَوْلِها في مساءِ البلادْ
وفي بالها أزرقٌ لهَبِيُّ الحوافِّ
وما يمزج البرتقال الغروبيّ
بالتركواز الكريمِ
وفي بالها وردةٌ تستطيع الكلامَ
عن الأرجوان الجريحِ
وفي بالها أبيضٌ أبيضٌ كحنان الضِّمادْ

على نَوْلِها في مساءِ البلادْ
وفي بالها اللوتسيُّ المبلّلُ بالماءِ
والأخضر الزعتريّ
وصُوفُ الضُّحى يتخلّل قضبان نافذةٍ
في جدار سميكٍ
فيُدْفِئُ تحت الضلوع الفؤادْ

على نَوْلِها في مساءِ البلادْ
وفي بالها السنبُلِيُّ المُعَصْفَرُ
والزعفران الذي قد يجيبكَ لو أنتَ ناديتَهُ
والنخيليُّ وهو يلاعِبُ غيماً يُحاذيهِ
في كفِّها النَّوْلُ، متعبَةً، تمزجُ
الخيطَ بالخيْطِ واللونَ باللونِ
تَرضى وتستاءُ
لكنها في مساءِ البلادْ
تُريدُ نسيجاً لهذا العراء الفسيحِ
وترسمُ سيفاً بكفّ المسيحِ

وجلجلةً مِن عِنادْ


سارة علي عبدالنبي