الجمعة، 27 يونيو 2014

مدرسة عثمان باشا الساقزلي

وقفنا بزنقة (درغوث باشا ) بحي باب البحر أمام باب مطلي باللون الأخضر وقد بهتت لونه بفعل الازمنة التى مرت عليه ،رغم  ذلك  شدنى للمكان وهج ما ،جذبنى لتناول المقبض والطرق على الباب حتى قبل أن ارفع رأسي لأجد لافته تحمل وصفاً للمبنى، كانت مدرسة "عثمان باشا الساقزلي " أو كما عرفت لاحقاً بعد الجلوس مع روادها بخلوة (الشيخ عمر الجنزوري) أحد علماء ليبيا الكبار.







أسُست هذه المدرسة من قبل الوالي العثماني عثمان باشا عام  1654 م  لغرض لتدريس العلوم الإسلامية في طرابلس بعد تدمير الإسبان وفرسان القديس يوحنا لكافة المرافق الحيوية للمدينة بما في ذلك المدارس الشرعية العتيقة مثل المدرسة المستنصرية التى تأسست على يد" ابن أبي الدنيا " في العصر الحفصي .

وقد حافظت مدرسة عثمان باشا حتى وقت قريب على التعليم الديني وفق نظام الحلقات في مختلف العلوم الإسلامية بشكل منتظم، كما أن المدرسين الذين تعاقبوا على التدريس فيها، كانوا من أهم علماء ليبيا الذين تخرجوا على الرعيل الأول، مما أضفى عليها طابع العراقة.

 ومن أبرز هؤلاء العلماء: محمد كامل بن مصطفى، عمر الجنزوري وعبد السلام البزنطي الذي واصل تدريس الفقه المالكي وعقيدة أهل السنة والجماعة، بالرغم من صغر المدرسة إلا أنها استطاعت أن تحافظ على الموروث العلمي والثقافي الإسلامي لطرابلس، وأن تنقله عبر الأجيال بنكهة طرابلس المغاربية، بكل ما يعنيه ذلك من أصالة تاريخ المدينة وعلو قدر علمائها.

جزء من حي باب البحر في المدينة القديمة حيث تظهر قباب مدرسة عثمان باشا في أسفل الصورة ويبدو جامع درغوث في يمين الصورة (الصورة من عشرينيات القرن العشرين).

عندما طرقنا الباب أملاً في أن يفُتح باب التاريخ لنا ، طرق أستاذ كريم مرة ومرتين وكانت الثالثة فاتحة الخير إذ فُتح الباب أخيرا من قبل  أحد حُراس ورواد هذه المدرسة الباب واستقبلنا وكأنه يعرفنا منذ زمن طويل والجالسون بأخر ساحة المدرسة يمطروننا بعبارات الاستقبال والترحيب ، ولا أجد كلمات لتصف مشاعرى   بمجرد أن وضعت قدمي على عتبة المدرسة .

كان شعوراً بالسكينة والراحة تلفت يميناً لأرى الألواح التي يُخط فيها القرآن بأنامل الصبية الصغار وفي نفس الاتجاه الغرفة التي تحوي رفات الوالي عثمان باشا و أهل بيته وقد تعرضت للنبش والتخريب ، تكفل أخي محمد أحد رواد هذه المدرسة بأخبارنا عن التخريب الذي طال المدرسة وبعض المعلومات عنها في أثناء هذه الزيارة كان هناك شيخ جليّل لم تتمكن ذاكرتي من حفظ اسمه و كان قامة في العلم والمعرفة و المعلومات الغزيرة رغم كبر سنه إلا أن عيناه كانت تُشع بالحياة جلسنا إليه وتحدثنا عن المدرسة وعن الحياة وضحكنا لطرافته .




عندما هممنا بالرحيل عطرنا الرواد ببعض المسك وأنا أسير وظلي أمامي توسع القلب قليلاً ليترك مكان لمدرسة عثمان باشا مكاناً عزيزاً ترحل إليه ذاكرتي كلما نشدت السكينة والصفاء ، وكلنا اردت أن اطرق باب التاريخ بلونه الأخضر المطفي .


هذه التدوينة مهداه إلى الصديق والأخ محمد وإلى رواد مدرسة عثمان باشا الساقزلي 


الأربعاء، 25 يونيو 2014

بورتريه دوستويفسكي

في عام 1872م أوفد (بافل تريتياكوف) صاحب معرض لصور الجاليري الشهير في موسكو ،الرسام الروسي المعروف (فاسيلي بيروف ) ليحصل على صورة زيتية لـ دوستويفسكي رغبة منه في ضمها لمجموعة صور المعرض ، لم يجلس بيروف  كعادة كل الرسامين ليرسم دوستويفسكي مستخدماً الطريقة المُعتادة في رسم البورتريه ، بل  بقي لأسبوع يتردد يومياً على بيت ديستوفسكي ويتبادل مع أطراف الحديث ويحاوره في مسائل وموضوعات جدلية ،لاستفزاز الملكات العقلية لفيدور دوستويفسكي حتى كان له ما أراد واستطاع بذكائه تصيّد تلك النظرة الحزينة الشاردة لـ دوستويفسكي ، أو هكذا  ظن كل من طالع هذه الصورة الزيتية للأديب الروسي العظيم ، نظرة حزينة تفسرها الحياة البائسة التي عاشها ديستوفسكي منذ الصغر وفقده لمن يُحب، أمه ،وأخوه ميخائيل، وابنته البكر صوفيا، وابنه الصغير الكسي ،والمرض ،والديون التي ورث اغلبها من أخيه وجفاء اقربائه ومرض زوجته الأولى ووفاتها ، ودسائس اقرانه من الادباء وتهكمهم عليّه ومرارة السجن و ألم المنفى ، لم يدركوا أن هذه النظرة هي النظرة التي تسبق كل رواية عظيمه له ، كل وصف فني دقيق لحالة إنسانية في رواياته ،تلك النظرة سبقت وصف مشهد الولادة في رواية " الشياطين" وهي نفس النظرة التي سبقت كتابة مشهد حلم راسكولنيكوف حول الحصان القتيل في رواية الجريمة والعقاب .


بورترية فاسيلي بيروف


لم يدرك  أحد أن تلك النظرة التي تصيّدها بيروف هي نظرة الإبداع ، نظرة التأمل ، نظرة الغوص في النفس البشرية ، إلا بعد أن كتبت زوجته  آنا غريغوريفنا في مذكراتها التي تحمل اسم Dostoevsky Reminiscences قصة هذه اللوحة ، وذكرت أنها كانت تلتمس هذه النظرة مراراَ وتكراراً كلما دخلت على زوجها في مكتبه وعبرت عن تلك الحالة بأنها حالة غوص في الذات تصل به لدرجة أنه لا ينتبه لدخولها وخروجها من المكتب مراراً وتكراراً ،ولا يصدق أنه لم ينتبه !
لا يضاهي هذا البورتريه  لديستوفسكي أي لوحة زيتية أخرى إلا صورة نصفية رسمها كرامسكوي  في اليوم الثاني لوفاة ديستوفسكي

قيل عن ديستوفسكي الكثير ، كتب كثيرة تناولت أدبه وحياته ،لكن آنا هي الوحيدة التي أنصفته ،لم تدري آنا وهي تكتب هذه المذكرات ،وهي التي بدأتها باعتراف أنها  لا تملك الموهبة الأدبية اللازمة ، لم تعرف بأنها تؤرخ لفترة مهمة في تاريخ روسيا الأدبي والسياسي  وأن مذكراتها أصبحت تُقرأ كمدخل للاضطلاع بالآدب الروسي من غزارة المعلومات والأسماء المذكورة فيها ، ولم تدرك وهي التي عاشت عمرها حاملة السلاح كما كان يسميها ديستوفسكي ، أنها تكتب رواية بطلها ديستوفسكي الإنسان الأديب !  






سارة علي عبدالنبي 
25/6/2014

السبت، 7 يونيو 2014

أنْ تَــــــرحَل






يتراءى لك المغرب كما صوره ابن جلول في روايته(أنَّ ترحل)  كمجموعة من الشباب يقضون وقتهم على شرفة أحد المقاهي المُطلة على البحر ، يتسامرون ويدخنون الكيّف يضيعون وقتهم في اللعب ويتحسرون على الكيلومترات الاربعة عشر التي تفصلهم عن إسبانيا الحُلم ، والحرية ، والحياة الكريمة وكأني بإسبانيا تنتظر قدومهم !!، تدور أحداث الرواية بين طنجة تلك المدينة المغاربية العصيّة عن المألوف وبرشلونة .
أحد أبطال الرواية  هو عز العرب (عازل) كما يسمونه اصدقائه ،شاب درس القانون وتخرج وبحث عن وظيفة فصدت أمامه الأبواب فقضى ايامه لاعناً لحظه ساعياً للخروج من المغرب مهما كلفه الأمر ، تُعيّله أخته الوحيدة (كنزه ).
 كنزه تعمل في التمريض بمرتب زهيدٍ ، كانت مخطوبه لأبن عمها الذي قضى غرقاً في أحدى رحلات الموت (الهجرة الغير شرعية ) لإسبانيا ،هي ايضاً تُريد الرحيّل عن طنجة وعن الذكريات تُريد أن تولد من جديد.



تفتقد الرواية لعنصر التاريخ ، يبدو إن ابن جلول أراد فقط الكتاب عن الحياة اليومية لشباب المغرب وحلم الهجرة ومأساتها ، وبما أنه يكتب للقراء الفرنسيين فقد كثر في الرواية الايحاءات والصور الجنسيّة ،فصور المغرب كماخور كبير تقطعت فيه أواصر الأخلاق والرادع الديني .على هامش الرواية بحثت عن تاريخ طنجة ولأنني تعودت على أسلوب رضوى عاشور وابراهيم نصرالله وغيرهم في دمج التاريخ بالرواية وشخصياتها أدركت أن طنجة التي يلامس البحر والمحيط احضانها ،هي نفسها التي بدأ منها  أمير المشائين  ابن بطوطة رحلته حول العالم ليقضي 27 عاماً من الترحال يرسم خلالها بورتريه لأرجاء العالم ، ويبدو أن هواء طنجة تشبع بأنفاس ابن بطوطه ليرث ابنائها وابناء المغرب حُب المغامرة والترحال بحثاً عن حياةٍ أفضل .


أربعة عشر كيلومتراً تمثل لهم ثنائية لا بد أن تمر ببالهم وكيف لا ،وكم من صديق لفظته مياه البحر على شاطئ طنجة فحملوه على اكتافهم وواره الثرى ، المسافة بين طنجة و اسبانيا هي الحد الفاصل بين الولادة او الموت ، وخلال إبحارهم والمركب مكتظ بعدد يفوق حمولته والموج محيط بهم من كل جانب  يصبون أنظارهم تارة نوح الأمواج وتارة نحو النوارس ، ويتذكرون تلك الأسطورة التي تقول إن نوارس طنجة هي التي أنبأت نوح عليه السلام وهو في سفينته بأن الأرض قريبة منه ،عندما لمح عليها آثار الطين . ويغمضون اعينهم ويتمنون ان تنطبق الاسطورة على نوارس اسبانيا  علّ الولادة تأتي بسرعة !