حين
وقعت عيني على أول كلمات لفدوى طوقان تقول
فيّها ( هناك أشياء عزيزة و نفيسة ،نؤثر أن نبقيها كامنة في زاوية
من أرواحنا ،بعيدة
عن العيون المتطفلة ، فلابد من إبقاء الغلالة مسدله على بعض جوانب هذه الروح
،صوناً لها من الابتذال)،
عندما وقعت عيني على تلك الكلمات وقعت فدوى طوقان في قلبي واخذت تلك الشاعرة
الفلسطينية جزءاً منه. واستمريت في البحث
عن أبيات فدوى الشعرية على المواقع الإلكترونية و تتبع سيرتها ،و كم أحببت قصيدتها
(رجاءً لا تمُتْ) التي رثت فيها أحب الناس إلى قلبها أخيها الشاعر الكبير إبراهيم
طوقان وقالت فيّها
يا أخا الروحِ رجاءً لا تمُتْ
أو فخُذْ روحي معك
ليتني أحمِلُ عن قلبكَ ما
يوجع قلبك
ومع البحث المستمر ،دلتني
صديقتي على سيرتها الذاتية "رحلة جبلية رحلة صعبة " والتي اعتبرها من
أكثر السير الذاتية صدقاً في أدبنا العربي المُعاصر، فقد تحدثت فدوى عن مخاوفها
بشجاعة وصدق لا نظير له . ولكن حتى سيرتها الذاتية لم تُجب عن تساؤلاتي نحو فدوى
طوقان فقد كُنت أجد صعوبة في فهم بعض أشعارها بسبب عدم معرفة الحدث الذي جعلها
تكتب هذه القصيدة العاطفية من تلك بقي هناك
شيء مفقود بالنسبة لي إلى أن دلتني تلك الصديقة على كتاب الكاتب رجاء النقاش (بين
المعداوى وفدوى طوقان: صفحات مجهولة في الأدب العربي المُعاصر) بطبعته المُعدلة
1989م وتحدث فيها عن الناقد العربي
المرحوم أنور المعداوى وخص جزءاً كبيراً من حديثه حول الحُب الذي نشأ بين المعداوى
وفدوى طوقان وكانت ثمرته 17 رسالة كتبها المعداوى لفدوى و أجمل القصائد العاطفية
لفدوى طوقان وللأسف لم يتمكن أحد من مطالعة رسائل فدوى للمعداوى الذي قام بأتلافها
خوفاً منه أن تقع في أيدي أناس أخرين بعد وفاته التي كانت مفاجئة في عام 1965 م.
كان المعداوى في فترة الخمسينات
يُعد من اشهر النقاد في الوطن العربي وكان صاحب عمود "تعقيبات" في مجلة الرسالة التي انشأها الأديب المصري
المعروف أحمد حسن الزيات سنة 1933، وكان ذا كلمة مسموعة في الوسط الأدبي .
كان المعداوى شديد الأعجاب بشعر
فدوى طوقان و يعتبرها شاعرة عاطفية حساسة تعتمد في شعرها على الانفعال بعواطفها
المختلفة نحو الحياة والناس عكس نازك الملائكة التي اعتبرها شاعرة تُفكر بعقلها
كثيراً وتكتب ما تفكر به لا ما تشعر بِهِ.
وكان اول تقارب روحي بينهما
عندما اهدته فدوى قصيدة "مع لاجئة في العيد " حيث قالت فيّها فدوى
أختاه، هذا العيد رفَّ سناه في
روح الوجودْ
وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيدْ
وأراك ما بين الخيام قبعتِ تمثالاً شقيًّا
متهالكً، يطوي وراء جموده ألمًا عتيًّا
يرنو إلى اللا شيء.. منسرحًا مع الأفق البعيدْ
وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيدْ
وأراك ما بين الخيام قبعتِ تمثالاً شقيًّا
متهالكً، يطوي وراء جموده ألمًا عتيًّا
يرنو إلى اللا شيء.. منسرحًا مع الأفق البعيدْ
وعلى أثرها تواصل المعداوى مع
فدوى التي كانت تُحيط نفسها بحواجز رغم رقتها وعاطفتها الجياشة اتجاه الحياة
وخوفها من الحب ومن الفشل ونشأتها في محيط محافظ جداً في مدينة نابلس . وتمكن من اقناعها بنشر أول ديوان لها واقنعها بتغيير اسم الديوان إلى "وحدي مع
الأيام " وقام بكل مايقتضيه الديوان من اخراج واشراف وتصحيح للأخطاء المطبعية
كما انه دفع بدار النشر أن تنشره مجاناً كخدمة له وحقق هذا الديوان نجاحاً هائلاً
لفدوى طوقان في أوساط الأدب العربي وصار لأسم فدوى طوقان مركز مرموق في الساحة
الشعرية العربية .
استمرت المراسلات بين فدوى
وأنور وكبر الحُب بينهما رغم محاولة كل منهما نفي ذلك تارة بتفسير الأمر على أنه
صداقة وتارة بتفسيره على انه أخوة ، ولكن فدوى المرأة الرقيقة والتي رات في اهتمام
أنور وسؤاله واهتمامها به ما يُحاول هو إنكاره كانت أكثر صراحةً وصدقاً مع نفسها
ومع أنور ، إلا أن أنور الذي كان يُعاني من الإلام حادة بسبب مرض أصاب الكلية
والضغوطات النفسية التي تعرض لها أن يبتعد فترات طويلة عن مراسلة فدوى مما جعل
الظنون تتسلل إلى عقل فدوى ظناً منها أن يتلاعب بعواطفها حتى وصل بهِ الأمر إلى
مصارحتها برغبته في قطع التواصل بينهما ،وتوقف التواصل بينهما لمدة عام كامل ،كان
مريراً على كُليهما ، عام فقد كل منهما جزءاً منه ،فكتبت فدوى
قصيدتها "دوامة الغُبار "
عامٌ قريب
كانت حياتي قبله
شبحاً يدب على جديب
متعثراً بالصخر ، بالأشواك
بالقدر الرهيب
حتى رآك
روحي تهل على كآبته
فتترعه يداك
فرحاً و اشعاعاً غريب
عامٌ قصير
سرنا معاً فيه على دربي الوعير
جنباً الى جنب ، و ملء عيوننا
دفء الشعور
و العاطفة
و إذا الحياة على صدى
خطواتنا المتآلفة
خضراء تورق في الصخور
عام و مر و دجا غبارٌ حولنا
هاجت به ريح القدر
و تلمستك يدي و في عيني ليل معتكر
و ارتاع قلبي
رجعت إلي يدي ميبّسة الدماء
بثلج رعبي لا صوت منك و لا أثر
و وقفت وحدي في وحشة التوهان . في
يتم الغريب
وقفت وحدي
تصطك روحي في فراغ الدرب من ذعر
و برد
و على فمي
إشراقةٌ ماتت . و في قلبي
تنبؤ ملهم
أني سأبقى العمر وحدي
لا تبعد
وعلى آثر هذه القصيدة ضعف
المعداوى وبعث رسالة لفدوى يوضح فيها أسباب ابتعاده ويعلن فيّها حبهُ الصريح لها ،فكتبت
فدوى أجمل قصائدها العاطفية "العودة" وقُبلت قصيدتها باستهجان كبير
لأنها استخدمت لها عبارة راسخة في ضمير النظال الفلسطيني "العودة" وهو لفظ مقتصر في تلك الفترة ولا زال على عودة اللاجئين
وقد استهلت قصيدتها بهذه
الأبيات
وأطلّ وجهك مشرقًا من خلف عامْ
عام طويل ظلّ في عمري يدب كألف عامْ
عام ظللتُ أجرُّه خلفي وأزحف في
الظلامْ
وعواصف ثلجية تصطكُّ حولي والطريقْ
كانت تضيق كأنها أمل يضيقْ ويضيع
في تيه القتامْ
لتختمها بأبيات
وأطلَّ وجهك من بعيدِ
حلوًا يرف على وجودي
ورأيت أحزاني تموت على تعانُقِ راحتينا
وأضاء في فمك ابتسام
البسمة الجذلى التي أحببتها منذ
التقينا
عادت تضيء كأنها قلب النهارْ
وتصب في نفسي فيشربها دمي
ويعبّها قلبي الظمي
ونسيت آلامي الكبارْ
ونسيت في فرح اللقاء عذاب عامْ
عام طويل ظلَّ في عمري يدب كألف
عامْ
ولكن المعداوى لم يكن صادقاً مع
فدوى كما يجب أن يكون كل المُحبين مع بعضهم، واستمر المعداوي في غيابه المتكرر بسبب
مرضه عن مراسلة فدوى حتى ضاقت ذراعاً وبلغت منها الظنون مبلغ اليقين وخصوصاً مع
تكرار ذكر المعداوى في كُل رسالة الشاعرة الراحلة "ناهد طه عبدالبر" وعن تلك الشخصية
النسائية التي كتب من أجلها "من الأعماق" وفي أخر رسالتين للمعداوى
اشتكى لفدوى انه لم يتلقى منها أي رسالة ،كانت فدوى قد حزمت أمرها وقررت أن ترجع
إلى عزلتها التي ألفتها منذ زمن ،ومر الوقت واجتمع على المعداوى وعزلته المرض و أُفول نجمه عن الساحة
الأدبية ،حتى فُجعت فدوى واصدقائه بخبر
وفاته عام 1965 عن 45 عاما نتيجة معاناة من مرض عضال.
تلك الرسائل التي تبادلها كل من
فدوى والمعداوي كانت من جانب المعداوي رسائل تحمل اللغة الجميلة ذات اللفظ
الموسيقي وإن تخلل بعضها بعض المزحات والغرور المحبب من قبل المعداوي إلا أنها
كانت سبباً في أجمل أشعار فدوى ،وكم كان الأدب سيكون محظوظاً لو أن المعداوى لم
يُتلف رسائل فدوى اشفاقاً عليها من أقلام الناقدين إن وقعت رسائلها في أيديهم ،كما
كنا محظوظين لو قرأنا سبعة عشر رسالة خطتها فدوى طوقان بأناملها وزينتها بجملها النثرية
وربما حتى الشعرية الرائعة ،كُنا قرأنا مُصارحة حقيقية لما يعترى النفس البشرية في
حالة الحُب والغضب واليأس والأمل .
رحل المعداوى وترك في نفس فدوى
ألماً كبيراً وندماً لأنها لم تستطيع يوماً إدراك ما كان يُعانيه المعداوي على المستوى
الجسدي والنفسي ولعلها كتبت إليه كما كتبت إلى أخويها الغائبين قصيدتها" إلى
صورة "
(( لاتتكلم ، إن التفسير يقلل من
طرافة الموضوع ! ))
اذهبي ، واعبري الصحارى إليه
فإذا ما احتواك بين يديه
ولمحت الأشواق في مقلتيه
مائجــــات أشعةً وظلالا
مفعمات ضراعــةً وابتهالا
فإذا الليل سفّ منه الجناح
ومضت في انسراحها الأرواح
تتلاقى على مهاد الأثير
عبر آفاق عالم مسحور اللاشعور
عالم الحلم ، مسبح اللاشعور
فاسبقني أنت كل حلم إليه
واستقرّي هناك في جفنيه
عانقي روحه ، ورفّي عليه
انشديه شعري وغنّي لحوني
في هواه ،
بثّيه كلّ شجوني
صورّي لهفتي له وحنيني
حدّثيه . . حتى يلوح الصباح
فاذا قبّل النى عينيه
وصحا ، لم يجد هناك لديه
غير (( لا شيء)) ماثلاً في يديه
وارجعي أنت صورةً بكماء
وجهها خامدٌ بلا تعبير
ميّت القلب والهوى والشعور !.
هكذا وليظل حبّي سرا
غامضاً ،
إن للغموض لسحرا
آسراً ، يجذب النفوس اليه
حيث تبقى مشدودة في يديه
ليس تقوي على الفكاك
فكوني
أنت مثلي لديه عمقاً وغورا
هكذا ، وليظلّ نهب الظنون
تائها بين شكه واليقين!.
سارة
علي عبدالنبي
8
أبريل 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق